لعل شهادتي مجروحة، أو هى بالفعل مجروحة، ولكن رغم ذلك تبقى الحقيقة المؤكدة التي قد لا يختلف عليها اثنين هى أن المصريين هم أظرف شعوب الأرض على الإطلاق، غير أن الغريب، والملفت للنظر، أن هذا الشعب تتجلى عنده النكتة في أحلك اللحظات، وتولد من رحم أصعب المواقف وأشدها خطوة، بل ودموية أيضاً استناداً على أن "القفشة حكمت".
فلهذا الشعب قدرة خارقة على تحويل الجنادل التي تعترض مجرى النهر إلى حدائق ورفة من الضحكات... التي تشبه الدموع. وليس ثمة جديد فالمصرين هم أقدر شعوب الأرض على خلق الضحكة من ركام الدموع،
وليس ثمة جديد يذكر حين نحاول الإقرار بخفة دم المصريين، وروحهم المرحة، وبشاشة وجوههم، وحلاوة معشرهم، وطلاوة أحديثهم، وقصصهم التي لا تنتهى وتمور بالأفاكية والنوادر والمستظرف من الأخبار. حتى أنهم يتندرون على أنفسهم أحياناً حين لا يجدون ما يتندرون عليه. وهذه الظاهرة تعصف بالألباب، وتحيـّر أصحاب الأفهام حين يحاولون فهمها. وتدعو إلى استفهام عميق حول المصدر الذي استقى منه المصريين هذه الشخصية الفريدة في تكوينها؟
فلهذا الشعب قدرة خارقة على تحويل الجنادل التي تعترض مجرى النهر إلى حدائق ورفة من الضحكات... التي تشبه الدموع. وليس ثمة جديد فالمصرين هم أقدر شعوب الأرض على خلق الضحكة من ركام الدموع،
وليس ثمة جديد يذكر حين نحاول الإقرار بخفة دم المصريين، وروحهم المرحة، وبشاشة وجوههم، وحلاوة معشرهم، وطلاوة أحديثهم، وقصصهم التي لا تنتهى وتمور بالأفاكية والنوادر والمستظرف من الأخبار. حتى أنهم يتندرون على أنفسهم أحياناً حين لا يجدون ما يتندرون عليه. وهذه الظاهرة تعصف بالألباب، وتحيـّر أصحاب الأفهام حين يحاولون فهمها. وتدعو إلى استفهام عميق حول المصدر الذي استقى منه المصريين هذه الشخصية الفريدة في تكوينها؟
لا مراء أن جذور هذه الطبيعة البشرية المتأصلة في شعب مصر تضرب إلى أعماق بعيدة الغور في عمق التاريخ، فمنذ عهد الفراعين والمصريين مستعبدين من قِبل قوى خارجية أو داخلية عملت على تأصيل معانى الذل والتهميش والظلم والجور، دون أن يكون في يد المصري سلاحاً يدافع به عن كرامته التي أهدرها هؤلاء الحكام على مسمع ومرأى من التاريخ الذي اكتفى بتسجيل هذه المواجهات بسلاح النكتة. والأمثلة كثيرة – لا سيما في العصر المملوكي – حين ابتكر المصريون أزجالاً ليس لها ضريب في تاريخ الأمم، وراحوا يبكتون بها حكامهم ويتندرون على غباوتهم، وضيق أفقهم.
ولكن مهما يكن من شيء، فإن خفة دم المصريين لم تتجلي في أبهى صورها أكثر من تجليها خلال ثورة يناير، تلك الثورة التي حظيت بأوسع تغطية إعلامية شهدها العالم، لا لشيء سوى لأنها أول ثورة في التاريح يكون بطلها هو فضاء العالم الرقمي، وأدواتها هم شباب لطالما رموه بتهم السلبية وضحالة الفكر، لكنهم أبهروا العالم بتلك الثورة النظيفة، أو الضاحكة كما أطلق عليها ناصر فرغلي في تقرير الـ BBC الأكثر من رائع عن الثورة المصرية.
ولكن مهما يكن من شيء، فإن خفة دم المصريين لم تتجلي في أبهى صورها أكثر من تجليها خلال ثورة يناير، تلك الثورة التي حظيت بأوسع تغطية إعلامية شهدها العالم، لا لشيء سوى لأنها أول ثورة في التاريح يكون بطلها هو فضاء العالم الرقمي، وأدواتها هم شباب لطالما رموه بتهم السلبية وضحالة الفكر، لكنهم أبهروا العالم بتلك الثورة النظيفة، أو الضاحكة كما أطلق عليها ناصر فرغلي في تقرير الـ BBC الأكثر من رائع عن الثورة المصرية.
أطاح هذا الشباب بواحد من أكثر النظم الشمولية المستبدة في تاريخ البشرية فقط بسلاح النكتة، والتهكم، والسخرية. ولن يغفل مدونوا التاريخ أن المصريين هم أول شعب يقيم " حفلة زار" لطرد رئيسهم ونظامه كأنه عفريت من الجن جثم على صدور المصريين بطلاسم سليمانية.
لن يغفلوا أنه لأول مرة تتحول ضمادة طبية على عين أحد مصابي القمع الشرطي - وما أكثرهم - إلى لافتة مكتوب عليها " يسقط مبارك "
أو أن آخر ابتكرغطائاً للرأس يحمية من حجارة بلطجية النظام هو الأشد غرابة شأنه شأن الثورة كلها.. لا منطقية.
أو كيف تحول بيت شعر للشاعر التونسي أبو القاسم الشابي فوق لافتة أخرى من "لو الشعب يوماً أراد الحياة .. فلابد أن يستجيب القدر" إلى "إذا الشعب يوماً أراد الحياة .. فلابد أن يستجيب البقر" ؟
أو كيف يقام حفل زفاف في قلب الميدان وسط هذه الأحداث؟
حتى بعد تهاوي النظام، ورحيل مبارك، نجد من يرفع لافتة كتب عليها تهكما "ارجع يا ريس .. احنا كنا بنهزر معاك"
لن يغفلوا أنه لأول مرة تتحول ضمادة طبية على عين أحد مصابي القمع الشرطي - وما أكثرهم - إلى لافتة مكتوب عليها " يسقط مبارك "
أو أن آخر ابتكرغطائاً للرأس يحمية من حجارة بلطجية النظام هو الأشد غرابة شأنه شأن الثورة كلها.. لا منطقية.
أو كيف تحول بيت شعر للشاعر التونسي أبو القاسم الشابي فوق لافتة أخرى من "لو الشعب يوماً أراد الحياة .. فلابد أن يستجيب القدر" إلى "إذا الشعب يوماً أراد الحياة .. فلابد أن يستجيب البقر" ؟
أو كيف يقام حفل زفاف في قلب الميدان وسط هذه الأحداث؟
حتى بعد تهاوي النظام، ورحيل مبارك، نجد من يرفع لافتة كتب عليها تهكما "ارجع يا ريس .. احنا كنا بنهزر معاك"
أرأيتم كيف أن النكتة هى سلاح ردع فعال في يد المصريين أثبت جدارته، وأطاح بنظام ديكتاتوري أحكم قبضته على مقاليد مصر، وتقنع على مدار ثلاثون عاماً بقناع الديمقراطية الذائفة متكئاً على تسعة وعشرون عاماً سبقته من الحكم العسكري الجائر،
هكذا أرسى المصريون قواعد مفهوم جديد للعمل الثوري بعدما سقط نظام مبارك في ثمانية عشر يوماً كانت فارقة في تاريخ مصر الحديث، والقديم أيضاً.
ولأن الأسلحة غير المتوقعة تأتي بنتائج غير متوقعة، لذا فقد كانت ثورة يناير المصرية مثار جدل واسع، وسطرت صفحات جديدة تماماً في استراتيجيات الثورات، وتكتيكات المعارك بين الشعوب المقهورة، والنظم المستبدة.
هكذا أرسى المصريون قواعد مفهوم جديد للعمل الثوري بعدما سقط نظام مبارك في ثمانية عشر يوماً كانت فارقة في تاريخ مصر الحديث، والقديم أيضاً.
ولأن الأسلحة غير المتوقعة تأتي بنتائج غير متوقعة، لذا فقد كانت ثورة يناير المصرية مثار جدل واسع، وسطرت صفحات جديدة تماماً في استراتيجيات الثورات، وتكتيكات المعارك بين الشعوب المقهورة، والنظم المستبدة.
كل المتفائلين - وأنا منهم - كان على يقين أن الثورة قادمة لا محالة، ولكن كان الظن - وبعض الظن إثم - أنها ستكون ثورة جياع، بدون قائد، بيد أن هذه الظنون خابت، اللهم إلا تلك التي تعلقت بالقيادة التي كان الاعتقاد السائد استناداً على معطيات العصر بأنها ستكون لا مركزية، أما ما دون ذلك من التنبؤات فلم تكن على درجة مقنعة من الدقة،
أحداً لم يكن يتوقع أن الثورة سوف يفجرها، ويحركها ويصبح مدادها أبناء الطبقة المتوسطة التي كنا نظن أنها أختفت من على السلم الطبقي للمجتمع المصري.
أحداً لم يتوقع أن يتوحد المصريون في لحظات هى الأشد ضبابية تحت راية واحدة كتبوا عليها بدماء "الشعب يريد إسقاط النظام"
حتى هذا الشعار ذاته الذى ملء آفاق الدنيا وصار دستوراً للثورة، بدا هو الآخر أول الأمر إحدى النكات المصرية الأكثر إضحاكاً، فمن ذا الذي كان يظن أن تخرج الملايين في أيام تاريخية إلى الشوارع، والأزقة، والحارات، مستمية دفاعاً عن حقوقها المسلوبة، وتنادي بالتغيير، والحرية، والعدالة الاجتماعية؟
أحداً لم يكن يتوقع أن الثورة سوف يفجرها، ويحركها ويصبح مدادها أبناء الطبقة المتوسطة التي كنا نظن أنها أختفت من على السلم الطبقي للمجتمع المصري.
أحداً لم يتوقع أن يتوحد المصريون في لحظات هى الأشد ضبابية تحت راية واحدة كتبوا عليها بدماء "الشعب يريد إسقاط النظام"
حتى هذا الشعار ذاته الذى ملء آفاق الدنيا وصار دستوراً للثورة، بدا هو الآخر أول الأمر إحدى النكات المصرية الأكثر إضحاكاً، فمن ذا الذي كان يظن أن تخرج الملايين في أيام تاريخية إلى الشوارع، والأزقة، والحارات، مستمية دفاعاً عن حقوقها المسلوبة، وتنادي بالتغيير، والحرية، والعدالة الاجتماعية؟
وبما أن الإعلام المصري كان يتخبط بعشوائية تبعاً لتخبط النظام الذي كان يسوسه، إذن فقد كان صيداً ثميناً، وفي الأيام الثمانية عشرة للثورة، أطلق الثوار طوفاناً في الأفاكية لاسيما بعدما رماهم هذا الإعلام الموجه بتهم العاملة لتحقيق أجندات أجنبية. فانبرى الظرفاء لتحويل هذه الفرية إلى منجم للنكات والتهكمات التي انتزعت الضحكات من الحلوق انتزاعاً، وما أكثر فرايا وتخرصات هذا الإعلام، لكن سلاح النكتة كان ماضياً، ودون هوادة استطاع أن يقلب السحر على الساحر. وليس أدل على ذلك من لافته رفعها أحد شباب الثورة كتب عليها "اضحك الثورة تطلع حلوة"، على وزن اضحك الصورة تطلع حلوة، وما أحلى ما كانت هذه الصورة.
ولعل سلسلة مطاعم كنتاكي حظيت - على حساب هذا الإعلام - باكبر حملة إعلانية في تاريخ العمل الإعلاني وتحولت صورة السيد ساندرز مؤسس هذه السلسلة عند المصريين إلى صورة مبارك الذي قدم له كل هذه الحملة الإعلانية وبالمجان، كما أصبح هارلاند ساندرز في النكتة المصرية يحمل شعار الإخوان المسلمين الشهير "الإسلام هو الحل" لأن نفس الإعلام المغلوط أشار ضمن تخبطاته إلى أن الإخوان المسلمين لهم ذراع فعال في تحريك هذه (الاضطرابات) بغية الوصول إلى كرسي الحكم.
ولعل سلسلة مطاعم كنتاكي حظيت - على حساب هذا الإعلام - باكبر حملة إعلانية في تاريخ العمل الإعلاني وتحولت صورة السيد ساندرز مؤسس هذه السلسلة عند المصريين إلى صورة مبارك الذي قدم له كل هذه الحملة الإعلانية وبالمجان، كما أصبح هارلاند ساندرز في النكتة المصرية يحمل شعار الإخوان المسلمين الشهير "الإسلام هو الحل" لأن نفس الإعلام المغلوط أشار ضمن تخبطاته إلى أن الإخوان المسلمين لهم ذراع فعال في تحريك هذه (الاضطرابات) بغية الوصول إلى كرسي الحكم.
أما الهتافات، فكان لها طابع خاص، ولا شك أن مُطلقوها قد ورثوا نظمها من أسلافهم الذين عاشوا في الحقبة المملوكية، فنجد من يهتف: "شيلوا مبارك وحطوا خروف .. يمكن يحكم بالمعروف"،
وآخر يردد: "يا حكومة هشك بشك .. بكرة الشعب ينط في كرشك"،
وثالث يكرر:"إرحل يعني إمشي .. يمكن ما بيفهمشي"،
ولكن يبقى الهتاف الأكثر فكاهة وغرابة فقط لأنه كان من غير المتوقع بعد تسع وأربعين سنة من الحكم العسكري أن يتحول هذا الشعار إلى واقع ملموس..
"ارفع راسك فوق .. انت مصري".
وآخر يردد: "يا حكومة هشك بشك .. بكرة الشعب ينط في كرشك"،
وثالث يكرر:"إرحل يعني إمشي .. يمكن ما بيفهمشي"،
ولكن يبقى الهتاف الأكثر فكاهة وغرابة فقط لأنه كان من غير المتوقع بعد تسع وأربعين سنة من الحكم العسكري أن يتحول هذا الشعار إلى واقع ملموس..
"ارفع راسك فوق .. انت مصري".
وانبرى كذلك الظرفاء، وتنافسوا في تدبيج النكات، منها :
"واحد بيسأل صديقه: اذا انتصرنا على الحكومة وفوزنا عليهم حيحصل إيه ؟ رد عليه الصديق وقال: هانلعب مع تونس في النهائي"
"لما سألوا الرئيس عن رأيه في التغيير قال: التغيير سنة الحياة. قالوا: وسياتك مش هتتغير؟ قال: أنا فرض مش سنة"
"لما قال عمر سليمان: حسني مبارك ده أبونا كلنا. رد واحد وقال: ده إحنا طلعنا ولاد حرام يا رجالة."
وتبقى شهادتي مهما كانت مجروحة حقيقة لا جدال فيها، ويبقى المصريون أظرف شعوب الأرض، حتى لكأني بالمتنبي حين قال: وكم ذا بمصر من المضحكات .. ولكنه ضحك كالبكاء.
هاني النجار
اذهب إلى: الصفحة الرئيسية فهرست العدد أرشيف المجلة
2 comments:
لقد تلقيت دعوتك وقمت بالرد عليك
هنا وكذلك عبر مدونتي
بالنسبة للمشاركة أرجو من سيادتكم الافادة عن كيفية المشاركة حيث أن بريد المجلة الالكتروني لا يظهر لدي
أرجو الافادة عن كيفية المشاركة وارسال المواضيع
أشكر جهودك
سأقوم بالمشاركة بقصيدة شعرية بعنوان " أبحث في وطني عن وطن"
القصيدة موجودة في مدونتي شروق الشمس تحت هذا الرابط
http://zena-zidan.blogspot.com/2011/02/blog-post_14.html
وكذلك سوف أرسلها على البريد في حين وصولها أرجو التأكيد لدي عبر مدونتي لأتأكد من وصولها
أشكر مجهوداتكم
إرسال تعليق